سورة المجادلة - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المجادلة)


        


{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}
{قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ}: تخاصمك وتحاورك وتراجعك {فِي زَوْجِهَا} وهي امرأة من الأنصار ثمّ من الخزرج، واختلفوا في اسمها ونسبها، فقال ابن عباس: هي خولة بنت خولد. وقال أبو العالية: خويلة بنت الدليم. وقال قتادة: خويلة بنت ثعلبة. وقال المقاتلان: خولة بنت ثعلبة ابن مالك بن خزامة الخزرجية من بني عمرو بن عوف.
عطية عن ابن عباس: خولة بنت الصامت.
وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها- أنّ اسمها جميلة، وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت وذلك أنّها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة في صلاتها فنظر إلى عجزها، فلمّا انصرفت أرادها فأبت عليه فغضب عليها، وكان امرءاً فيه سرعة ولمم. فقال لها: أنتِ عليَّ كظهر أُمّي. ثم ندم على ما قال، وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية. فقال لها: ما أظنك إلاّ قد حرمتِ عليَّ. قالت: لا تقل ذلك، ائتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله. فقال: إني أجدني استحي منه أن أسأله عن هذا. قالت: فدعني أسأله. قال: سليه.
فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة تغسل شقّ رأسه، فقالت: يا رسول الله، إنّ زوجي أوس بن الصامت تزوّجني، وكنت شابّة جميلة ذات مال وأهل، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرّق وكبرت سنّي ظاهر منّي وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإيّاه ينعشني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حرمت عليه». فقالت: يا رسول الله، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقاً، وإنّه أبو ولدي وأحبّ الناس إليّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حرمت عليه». فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، قد طالت صحبتي ونقصت له بطني. فقال رسول الله عليه السلام: «ما أراك إلاّ وقد حرمتِ عليه ولم أومر في شأنك بشيء».
فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قال لها رسول الله عليه السلام: «حرمت عليه» هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدّة حالي، اللهمّ، فأنزلْ على لسان نبيّك.
وكان هذا أول ظهار في الإسلام. فقامت عائشة تغسل شقّ رأسه الآخر فقالت: انظر في أمري، جعلني الله فداك يا نبيّ الله. فقالت عائشة: اقصري حديثك ومحادثتك، أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُنزل عليه أخذه مثل السبات؟ فلمّا قضى الوحي قال: «ادعي زوجك». فجاء، فقرأ ما نزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ثم بيّن حكم الظهار، وجعل فيه الكفّارة، فقال سبحانه: {الذين يُظَاهِرُونَ} إلى آخرها، قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلّها، إنّ المرأة لتحاور رسول الله وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفى عليَّ بعضه، إذ أنزل سبحانه: {قَدْ سَمِعَ الله} الآيات.
فلمّا نزلت هذه الآيات وتلاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «هل تستطيع أن تعتق رقبة؟». قال: إذن يذهب مالي كلّه. الرقبة غالية وأنا قليل المال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟». قال: والله يا رسول الله، إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرات كلّ بصري وخشيت أن تعشو عيني. قال: «فهل تستطيع أن تطعم ستّين مسكيناً؟». قال: لا والله، إلاّ أن تعينني على ذلك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي معينك بخمسة عشر صاعاً، وأنا داع لك بالبركة».
فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً واجتمع لهما أمرهما.
فذلك قوله: {والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ}، قد ذكرنا اختلاف القرّاء في هذا الحرف في سورة الأحزاب.
{مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} قرأ العامّة بخفض التاء ومحلّه نصب، كقوله سبحانه: {هذا بَشَراً} [يوسف: 31]. وقيل: {بأمهاتهم}. وقرأ المفضّل بضمِّ التاء. {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً} أي كذباً، والمنكر: الذي لا تعرف صحّته. {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}
{والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ}، اعلم أنّ الألفاظ التي يصير المرء بها مظاهراً على ضربين: صريح، وكناية. فالصريح هو أن يقول: أنتِ عليَّ كظهر أُمّي، وكذلك إذا قال: أنتِ عليَّ كبطن أمّي أو كرأس أمّي أو كفرج أمّي، وهكذا إذا قال: فرجك أو رأسك أو ظهرك أو صدرك أو بطنك أو يدك أو رجلك عليَّ كظهر أُمّي، فإنّه يصير مظاهراً، وكلّ ذلك محلّ قوله: يدك أو رجلك أو رأسك أو بطنك طالق فإنّها تطلق، والخلاف في هذه المسألة بين الفريقين كالخلاف في الطلاق.
ومتى ما شبّهها بأمّه أو بإحدى جدّاته من قبل أبيه وأُمّه كان ذلك ظهاراً بلا خلاف. وإن شبّهها بغير الأمّ والجدّة من ذوات المحارم التي لا تحلّ له بحال كالإبنة والأخت والعمّة والخالة ونحوها، كان مظاهراً على الصحيح من المذاهب. فصريح الظهار هو أن يشبّه زوجته أو عضواً من أعضائها بعضو من أعضاء أُمّه، أو أعضاء واحدة من ذوات محارمه.
والكناية أن يقول: أنتِ عليَّ كأُمّي، أو مثل أمّي أو نحوها، فإنّه يعتبر فيه نيّته. فإن أراد ظهاراً كان مظاهراً وإن لم ينو الظهار لا يصِرْ مظاهراً.
وكلّ زوج صحّ طلاقه صحّ ظهاره، سواءً كان عبداً أو حراً أو ذمّياً أو دخل بالمرأة أو لم يدخل بها، أو كان قادراً على جماعها أو عاجزاً عنه. وكذلك يصحّ الظهار من كلّ زوجة، صغيرة كانت أو كبيرة، أو عاقلة أومجنونة، أو رتقاء أو سليمة، أو صائمة أو محرمة، أو ذمّية، أو مسلمة، أو في عدّة يملك رجعتها.
وقال أبو حنيفة: لا يصحّ ظهار الذمّيّ. وقال مالك: لا يصحّ ظهار العبد، قال بعض العلماء: لا يصحّ ظهار غير المدخول بها. وقال المزني: إذا طلّق الرجل امرأته طلقة رجعيّة ثم ظاهر فإنّه لا يصحّ.
{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} اعلم أنّ الكفارة تلزم بالظهار وبالعود جميعاً، ولا تلزم بأحدهما دون الآخر. كما أنّ الكفارة في باب اليمين تجب باليمين والحنث جميعاً معاً، فإذا عاد في ظهاره لزمته الكفّارة.
واختلف العلماء والفقهاء في معنى العود؛ فقال الشافعي: العود الموجب للكفّارة أن يمسك عن طلاقها بعد الظهار وتمضي مدّة يمكنهُ أن يطلّقها فلم يطلّقها. وقال قتادة: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} يريد أن يغشاها ويطأها بعدما حرّمها. وإليه ذهب أبو حنيفة، قال: إن عزم على وطئها ونوى أن يغشاها كان عوداً.
وقال مالك: إن وطئها كان عوداً، وإن لم يطأها لم يكن عوداً.
وقال أصحاب الظاهر: إن كرّر اللفظ كان عوداً وإن لم يكرّر لم يكن عوداً. وهو قول أبي العالية، وظاهر الآية يشهد له، وهو قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} أي إلى ما قالوا، {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا}؛ لأنّ الله سبحانه قيّد الرقبة بالإيمان في كفّارة القتل وأطلق في هذا الموضع، ومن حكم المطلق أن يحمل على القيد. وقوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} أي يتجامعا، فالجماع نفسه محرّم على المظاهر حتى يكفّر، فإن وطئ قبل التكفير فقد فعل محرّماً، ولا تسقط عنه الكفّارة بل يأتي بها على وجه القضاء، كما لو أخّر الصلاة عن وقتها، فإنّه لا يسقط عنه إتيانها بل يلزمه قضاؤها. وسواء كفّر بالإعتاق أو الصيام أو الإطعام فإنّه يجب عليه تقديم الكفّارة، ولا يجوز له أن يطأها قبل الكفّارة.
وقال أبو حنيفة: إن كفّر بالإطعام جاز له أن يطأ ثم يطعم ولم يخالف في العتق والصيام.
فهذا حكم وطء المظاهر قبل التكفير.
وأمّا غير الوطء من التقبيل والتلذّذ فإنّه لا يحرم في قول أكثر العلماء. وهو قول الحسن وسفيان، والصحيح من مذهب الشافعي. وقال بعضهم: عنى به جميع معاني المسيس؛ لأنّه عامّ وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه.
{ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ}: تؤمرون به، {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ} الرقبة ولا ثمنها، أو يكون مالكاً للرقبة إلاّ إنّه محتاج إليها لخدمته، أو يكون مالكاً للثمن ولكن يحتاج إليه لنفقته أو كان له مسكن يسكنه، فله الانتقال إلى الصوم.
وقال أبو حنيفة: ليس له أن يصوم وعليه أن يعتق الرقبة وإن كان محتاجاً إليها وإلى ثمنها، فإن عجر عن الرقبة {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} فإنْ أفطر في أثنائها بغير عذر قطع التتابع وعليه أن يستأنف شهرين متتابعين. وإن أفطر بعذر المرض أو السفر، فاختلف الفقهاء فيه، فقال قوم: لا ينقطع التتابع وله أن يبني ويقضي الباقي، وإليه ذهب سعيد بن المسيّب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي، وهو أحد قولي الشافعي.
وقال آخرون: ليس له أن يبني بل يلزمه أن يستأنف ويبتدئ، وهو قول النخعي وأصحابه، والأصحّ من قولي الشافعي.
وإن تخلّل صوم الشهرين زمان لا يصّح فيه الصوم عن الكفّارة كالعيدين وأيام التشريق وأيام شهر رمضان، فإنّ التتابع ينقطع بذلك ويجب الاستئناف.
ولو وطئ المظاهر في الشهرين، نظرَ؛ فإن وطِئها نهاراً بطل التتابع وعليه الابتداء، وإن وطِئها ليلا لم يبطل التتابع. وقال أبو حنيفة: سواء وطئ ليلا أو نهاراً فإنّه يبطل التتابع وعليه أن يستأنف صوم شهرين متتابعين.
{فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} الصيام، وعدمُ الاستطاعة مثلُ أن يخاف من الصوم لعلة أو لحوق ومشقّة شديدة ومضرّة ظاهرة، {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} لكلّ مسكين مدّ من غالب قوت بلده، والخلاف فيه بين الفريقين كالاختلاف في زكاة الفطرة. {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ الله وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
{إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ}: يخالفون ويعادون {الله وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ}: أُهلكوا وأُخّروا وأُحربوا {كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عملوا أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مَا يَكُونُ} قراءة العامّة بالياء لأجل الحائل، وقرأ أبو جعفر القارئ {تكون} بالتاء لتأنيث النجوى، والأول أفصح وأصحّ {مِن نجوى} متناجين {ثَلاَثَةٍ}، قال الفراء: إن شئت خفضت الثلاثة على نعت النجوى وإن شئت أضفت النجوى إليها، ولو نصبت على أنّها حال لكان صواباً. {إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} بالعلم يسمع نجواهم ويعلم فحواهم، {وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ}، قراءة العامّة بالنصب في محلّ الخفض عطفاً. وقرأ يعقوب وأبو حاتم {أَكْثَرَ} بالرفع على محلّ الكلام قبل دخول {مِنْ}، وقرأ الزهري {أَكْثَرَ} بالباء، {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى} الآية قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنّهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين، وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلاّ وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو مصيبة أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أصحابهم وأقرباؤهم. فلمّا طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم ألاّ يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك، وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مقاتلان: أنزلت في اليهود، وكانت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم موادعة، فإذا مرّ بهم رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه السلام جلسوا يتناجون فيما بينهم حتى ينظر المؤمن أنّهم يتناجون بقتله أو بما يكره، فينزل الطريق عليهم من المخافة، فبلغ ذلك النبي عليه السلام فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وقال ابن زيد: كان الرجل يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله الحاجة ليُريَ الناس أنّه قد ناجى فيقول لهم: إنّما يتناجون في حرب حضرت، أو جمع قد جمع لكم، أو أمر مهمّ قد وقع، فأنزل الله سبحانه: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها {وَيَتَنَاجَوْنَ}، قرأ يحيى والأعمش وحمزة {ينتجون} على وزن يفتعلون، وقرأ الباقون {يَتَنَاجَوْنَ} على وزن يتفاعلون، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: {بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} وولم يقل أنتجيتم وانتجوا. {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} وقرأ الضحّاك: ومعصيات الرسول فيهما بالجمع {تناجوا} وذلك أنّ اليهود كانوا يدخلون على ر سول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: السام عليك. فيرد عليهم رسول الله: «وعليكم». ولا يدري ما يقولون، والسام الموت، فإذا خرجوا قالوا: لو كان نبيّاً لعُذّبنا واستجيب فينا وعرف قولنا. فدخلوا عليه ذات يوم وقالوا: السام عليك. ففطنت عائشة رضي الله عنه إلى قولهم وقالت: وعليكم السام والذام والداء واللعنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَه يا عائشة، إنّ الله عزّ وجلّ يحبّ الرفق في الأمر كلّه ولا يحبّ الفحش والتفحّش».
فقالت: يا رسول الله، ألم تسمع ما قالوا؟، فقال رسول الله عليه السلام: «ألم تسمعي ما رددت عليهم؟». فأنزل الله هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم».
ثم نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود فقال: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ}، قراءة العامّة بالألف، وروى أويس عن يعقوب: {فلا تتنجوا} من الانتجاء.
{بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} كفعل المنافقين واليهود {وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ وَلَيْسَ} التناجي {بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن جعفر قال: حدّثنا حمّاد بن الحسن قال: حدّثنا عبيد الله قال: حدّثنا الأعمش، عن سفيان عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَ اثنان دون صاحبهما؛ فإنّ ذلك يحزنه».
أخبرنا محمّد بن حمدون قال: أخبرنا مكّي قال: أخبرنا عبد الله بن بشر قال: حدّثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتناجَ اثنان دون الثالث».
{ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ} الآية، قال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه السلام، وكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنّوا بمجلسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض.
وقال المقاتلان: كان النبي عليه السلام في الصفّة وفي المكان ضيق وذلك يوم الجمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين الأنصار، فجاء أناس من أهل بدر وفيهم ثابت بن قيس بن شماس، وقد سبقوا في المجلس، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليكم أيّها النبّي ورحمة الله. فردّ عليهم النبي عليه السلام ثم سلّموا على القوم بعد ذلك، فردّوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم، فعرف النبي عليه السلام ما يحملهم على القيام فلم يفسحوا لهم، فشقّ ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار والتابعين من غير أهل بدر: «قم يا فلان وأنت يا فلان». فأقام من المجلس بقدر النفر الذين قاموا بين يديه من أهل بدر، فشقّ ذلك على من أُقيم من مجلسه، وعرف النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه السلام الكراهية في وجوهم، فقال المنافقون للمسلمين: ألستم تزعمون أنّ صاحبكم يعدل بين الناس؟ فوالله ما عدل على هؤلاء، أنّ قوماً أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه مقامهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال الكلبي: نزلت في ثابت بن قيس بن الشماس وقد ذكرت هذه القصّة في سورة الحجرات فأنزل الله عزّ وجلّ في الرجل الذي لم يتفّسح له {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ}: توسّعوا، ومنه قولهم: مكان فسيح إذا كان واسعاً في المجلس.
قرأ السلمي والحسن وعاصم {فِي المجالس} بالألف على الجمع، وقرأ قتادة: {تفاسحوا} بالألف فيهما، وقرأ الآخرون {تَفَسَّحُواْ} {في المجْلس} يعنون مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم واختاره أبو حاتم وأبو عبيد قال: لأنّه قراءة العامّة، مع أن المجلس يؤدي معناه عن المجالس كلّها من مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه السلام وغيره.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا عبد الملك بن عمرو قال: حدّثنا فليح، عن أيوب بن عبد الرحمن بن صعصعة الأنصاري، عن يعقوب بن أبي يعقوب، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن افسحوا يفسح الله لكم».
وقال أبو العالية والقرظي: هذا في مجالس الحرب ومقاعد القتال، كان الرجل يأتي القوم في الصّف فيقول لهم: توسّعوا، فيأبون عليه لحرصهم على القتال، فأمرهم الله سبحانه أن يفسح بعضهم لبعض. وهذه رواية العوفي عن ابن عباس.
قال الحسن: بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قاتل المشركين وصفّ أصحابه للقتال تشاحّوا على الصف الأوّل ليكونوا في أوّل غارة القوم، فكان الرجل منهم يجيء إلى الصّف الأوّل فيقول لإخوانه: توسّعوا لي؛ ليلقى العدوّ ويصيب الشهادة، فلا يوسّعون له رغبة منهم في الجهاد والشهادة، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
{وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ} قرأ عاصم وأهل المدينة والشام بضم الشينين، وقرأ الآخرون بكسرهما. وهما لغتان، يعني وإذا قيل لكم: قوموا وتحرّكوا وارتفعوا وتوسّعوا لإخوانكم فافعلوا.
وقال أكثر المفسّرين: معناه: وإذا قيل لكم: انهضوا إلى الصلاة والجهاد والذكر وعمل الخير أي حق كان فانشزوا ولا تقصّروا.
قال عكرمة والضحاك: يعني إذا نودي للصلاة فقوموا لها، وذلك أن رجالا تثاقلوا عن الصلاة إذا نودي لها، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال ابن زيد: هذا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن كلّ رجل منهم كان يحبّ أن يكون آخر عهده رسول الله، فقال الله سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ انشزوا} عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنّ له حوائج {فَانشُزُواْ} ولا تطلبوا المكث عنده.
{يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ} بطاعتهم رسول الله وقيامهم من مجالسهم وتفسّحِهم لإخوانهم {والذين أُوتُواْ العلم} منهم بفضل علمهم وسابقتهم {دَرَجَاتٍ} فأخبر الله سبحانه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيب فيما أُمر وأنّ أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا، وأنّ النفر من أهل بدر مستحقّون لما عوملوا من الإكرام {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن عامر البلخي قال: حدّثنا القاسم ابن عبّاد قال: حدّثنا صالح بن محمّد الترمذي قال: حدّثنا المسيّب بن شريح، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن قال: قرأ ابن مسعود هذه الآية {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ} فقال: أيّها الناس، افهموا هذه الآية ولِتَرَغّبكم في العلم فإن الله سبحانه يقول: يرفع الله المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم درجات.
وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه قال: أخبرنا صالح ابن مقاتل، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على الشهيد درجة، وفضل الشهيد على العابد درجة، وفضل النبيّ صلى الله عليه وسلم على العالم درجة، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، وفضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جاءته منّيته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة واحدة».


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}
{ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} قال ابن عباس: وذلك أنّ الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكثروا، حتى شقّوا عليه وأحفوه بالمسألة فأدبّهم الله سبحانه وفطّنهم عن ذلك بهذه الآية، وأمرهم أن لا يناجوه حتى يقدّموا صدقة.
وقال مقاتل بن حيّان: نزلت في الأغنياء، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره النبي صلى الله عليه وسلم طول جلوسهم ومناجاتهم فأمر الله تعالى بالصدقة عند المناجاة، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن المناجاة، فأمّا أهل العسرة فلم يجدوا شيئاً، وأمّا أهل الميسرة فبخلوا ومنعوا، فاشتدّ ذلك على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت الرخصة، قال مجاهد: نهوا عن مناجاة النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يتصدّقوا، فلم يناجه إلاّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قدّم ديناراً فتصدّق به ثمّ نزلت الرخصة.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: إنّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} فإنّها فرضت ثم نسخت.
أخبرني عبد الله بن حامد إجازة قال: أخبرنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه قال: أخبرنا علي بن صقر بن نصر قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد قال: حدّثنا أبو عبد الرحمن الأشجعي، عن سفيان عن عثمان بن المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن عليّ بن علقمة الأنماري، عن علىّ بن أبي طالب قال: لمّا نزلت {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما ترى بذي دينار»؟. قلت: لا يطيقونه. قال: «كم»؟. قلت: حبّة أو شعيرة. قال: «إنك لزهيد». فنزلت {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} الآية.
قال عليّ رضي الله عنه: فِيّ خفَّف الله سبحانه عن هذه الأمّة، ولم تنزل في أحد قبلي ولن تنزل في أحد بعدي.
قال ابن عمر: كان لعليّ بن أبي طالب ثلاث لو كان لي واحدة منهن كانت أحبّ إليّ من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى.
{أَأَشْفَقْتُمْ} أبخلتم وخفتم بالصدقة الفاقة {أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} فتجاوز عنكم ولم يعاقبكم بترك الصدقة، وقيل: الواو صلة. مجازه وإذ لم تفعلوا تاب الله عليكم تجاوز عنكم وخفّف ونسخ الصدقة.
قال مقاتل بن حيّان: إنّما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ.
وقال الكلبي: ما كانت إلاّ ساعة من النهار.
{فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم} نزلت في المنافقين تولّوا اليهود وناصحوهم ونقلوا إليهم أسرار المسلمين {مَّا هُم مِّنكُمْ} يا معشر المسلمين {وَلاَ مِنْهُمْ} يعني اليهود والكافرين. نظيره {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} [النساء: 143].
{وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
قال السدّي ومقاتل: خاصّة في عبد الله بن نبتل المنافق، كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجره إذ قال: «يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار وينظر بعيني شيطان» فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «على ما تشتمني أنت وأصحابك»؟ فحلف بالله ما فعل، وقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فعلت».
وانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبّوه، فأنزل الله سبحانه ذكر هذه الآية.
{أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * اتخذوا أَيْمَانَهُمْ} الكاذبة، وقرأ الحسن بكسر الألف، أي إقرارهم {جُنَّةً} يستجنّون بها من القتل ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.
{لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ} يوم القيامة {أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ} كارهين، ما كانوا كاذبين {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ}.
قال قتادة: إنّ المنافق يحلف له يوم القيامة كما حلف لأوليائه في الدنيا {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون}.
أخبرنا الحسن بن محمّد قال: حدّثنا أحمد بن يعقوب الأنباري قال: حدّثنا أبو حنيفة محمّد بن حنيفة بن ماهان الواسطي قال: حدّثنا إبراهيم بن سليم الهجمي قال: حدّثنا ابراهيم بن سليمان الدبّاس قال: حدّثنا ابن أخي روّاد، عن الحكم عن عيينة عن مقسم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينادي مناد يوم القيامة: أين خصماء الله؟ فيقوم القدرية وجوههم مسودّة، مزرقّة أعينهم، مائل شدقهم، يسيل لعابهم، فيقولون: والله ماعبدنا من دونك شمساً ولا قمراً ولا صنماً ولا وثناً ولا اتّخذنا من دونك إلهاً».
فقال ابن عباس: صدقوا والله، أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون، ثم تلا ابن عباس هذه الآية {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون}، هم والله القدريون، هم والله القدريون.
{استحوذ}: غلب واستولى {عَلَيْهِمُ الشيطان فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك فِي الأذلين}: الأسفلين.
{كَتَبَ الله}: قضى الله سبحانه {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي}، وذلك أنّ المؤمنين قالوا: لئن فتح الله لنا مكّة وخيبر وما حولها فإنّا لنرجو أن يظفرنا الله على الروم وفارس. فقال عبد الله بن أُبىّ: أتظنّون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ والله لهم أكثر عدداً وأشدّ بطشاً من ذلك. فأنزل الله سبحانه: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} نظيره قوله سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171-173].
{لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله} الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة. وسنذكر القصة في سورة الامتحان إن شاء الله.
وقال السدّي: نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أُبي، وذلك أنّه كان جالساً إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب رسول الله عليه السلام الماء، فقال عبد الله: يا رسول الله، أبقِ فضلة من شرابك. قال: «وما تصنع بها»؟ قال: أسقيها أبي لعلّ الله يطهّر قلبه.
ففعل فأتى بها أباه، فقال: ما هذا؟ قال من شراب رسول الله عليه السلام جئتك بها لتشربها لعلّ الله سبحانه وتعالى يطهّر قلبك. فقال أبوه: هلاّ جئتني ببول أُمّك. فرجع إلى النبي عليه السلام، فقال: يا رسول الله، ائذن لي في قتل أبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل ترفّق به وتحسّن إليه».
وقال ابن جريح: حدّثت أنّ أبا قحافة سبّ النبي صلى الله عليه وسلم فصكّه أبو بكر صكّة سقط منها، ثم ذكر ذلك للنبيّ عليه السلام فقال: «أوَفعلته؟». فقال: نعم. قال: «فلا تعد إليه».
فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لو كان السيف منّي قريباً لقتلته، فأنزل الله سبحانه هذه الآية: {يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله}.
وروى مقاتل بن حيّان، عن مرّة الهمذاني، عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية: {وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ} يعني أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد {أَوْ أَبْنَآءَهُمْ} يعني أبا بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، وقال: يا رسول الله: دعني أكرّ في الرعلة الأولى. فقال له رسول الله: «متّعنا بنفسك يا أبا بكر، أما تعلم أنّك عندي بمنزلة سمعي وبصري؟».
{أَوْ إِخْوَانَهُمْ} يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} يعني عمر قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر، وعليّاً وحمزة وعبيدة قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر. {أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} قراءة العامّة بفتح الكاف والنون.
وروى المفضّل عن عاصم بضمّهما على المجهول، والأوّل أجود؛ لقوله: {وَأَيَّدَهُمْ} و{وَنُدْخِلُهُمْ} [النساء: 57].
قال الربيع بن أنس: يعني أثبت الإيمان في قلوبهم فهي موقنة مخلصة.
وقيل: معناه كتب في قلوبهم الإيمان، كقوله: {فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71].
وقيل: حكم لهم بالإيمان فذكر القلوب لأنّها موضعه.
{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ}: وقوّاهم بنصر منه، قاله الحسن.
وقال السدّي: يعني بالإيمان. ربيع، بالقرآن وحجّته، نظيره: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]. ابن جرير: بنور وبرهان وهدى. وقيل: برحمة. وقيل: أمدّهم بجبريل عليه السلام.
{وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون}
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا محمّد بن حمدان بن سفيان قال: حدّثنا محمّد بن يزيد بن عبد الله بن سلمان قال: حدّثنا المرداس أبو بلال قال: حدّثنا إسماعيل، عن سعد بن سعيد الجرجاني، عن بعض مشيخته قال: قال داود عليه السلام: إلهي، من حزبك وحول عرشك؟.
فأوحى الله سبحانه إليه: يا داود، الغاضّة أبصارهم، النقيّة قلوبهم، السليمة أكفّهم، أولئك حزبي وحول عرشي.